الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وإطلاقه على العطاش مجاز لعلاقة اللزوم لأن من يرد الماء لا يرده إلا لعطش، وجوز أن يكون المراد من الورد الدواب التي ترد الماء والكلام على التشبيه أي نسوقهم كالدواب التي ترد الماء، وفي (الكشف) في لفظ الورد تهكم واستخفاف عظيم لاسيما وقد جعل المورد جهنم أعاذنا الله تعالى منها برحمته فلينظر ما بين الجملتين من الفرق العظيم.وقرأ الحسن، والجحدري {يُحْشَرُ المتقون كَرِهَ المجرمون} ببناء الفعلين للمفعول، واستدل بالآية على أن أهوال القيامة تختص بالمجرمين لأن المتقين من الابتداء يحشرون مكرمين فكيف ينالهم بعد ذلك شدة؛ وفي (البحر) الظاهر أن حشر المتقين إلى الرحمنوفدًا بعد انقضاء الحساب وامتياز الفريقين وحكاه ابن الجوزي عن أبي سليمان الدمشقي وذكر ذلك النيسابوري احتمالًا بحثًا في الاستدلال السابق.وأنت تعلم أن ذلك لا يتأتى على ما سمعت في الخبر المروى عن علي كرم الله تعالى وجهه فإنه صريح في أنهم يركبون عند خروجهم من القبور وينتهون إلى باب الجنة وهو ظاهر في أنهم لا يحاسبون.وقال بعضهم: إن المراد بالمتقين الموصوفون بالتقوى الكاملة ولا يبعد أن يدخلوا الجنة بلا حساب فقد صحت الأخبار بدخول طائفة من هذه الأمة الجنة كذلك، ففي (الصحيحين) عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: «عرضت على الأمم يمر النبي معه الرجل والنبي معه الرجلان والنبي ليس معه أحد والنبي معه الرهط فرأيت سوادًا كثيرًا فرجوت أن يكون أمتي فقيل: هذا موسى وقومه ثم قيل: انظر فرأيت سوادًا كثيرًا فقيل: هؤلاء أمتك ومع هؤلاء سبعون ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب فتفرق الناس ولم يبين لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكر أصحابه فقالوا: أما نحن فولدنا في الشرك ولكن قد آمنا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم هؤلاء أبناؤنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون» الحديث.وأخرج الترمذي وحسنه عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفًا لا حساب عليهم ولا عذاب مع كل ألف سبعين ألفًا وثلاث حثيات من حثيات ربي».وأخرج الإمام أحمد والبزار والطبراني عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: «هلا استزدته؟ قال قد استزدته فأعطاني هكذا وفرج بين يديه وبسط باعيه وحثى» قال هشام: هذا من الله عز وجل لا يدري ما عدده؛ وأخرج الطبراني والبيهقي عن عمرو بن حزم الأنصاري رضي الله تعالى عنه قال: «احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثًا لا يخرج إلا إلى صلاة مكتوبة ثم يرجع فلما كان اليوم الرابع خرج إلينا صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله احتبست عنا حتى ظننا أنه حدث حدث قال: لم يحدث الأخير إن ربي وعدني أن يدخل من أمتي الجنة سبعين ألفًا لا حساب وإني سألت ربي في هذه الثلاث أيام المزيد فوجدت ربي ماجدًا كريمًا فأعطاني مع كل واحد سبعين ألفًا...» الخبر إلى غير ذلك من الأخبار وفي بعضها ذكر من يدخل الجنة بغير حساب بوصفه كالحامدين الله تعالى شأنه في السراء والضراء وكالذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع وكالذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله تعالى وكالذي يموت في طريق مكة ذاهبًا أو راجعًا وكطالب العلم والمرأة المطيعة لزوجها والولد البار بوالديه وكالرحيم الصبور وغير ذلك، ووجه الجمع بين الأخبار ظاهر ويلزم على تخصيص المتقين بالموصوفين بالتقوى الكاملة دخول عصاة المؤمنين في المجرمين أو عدم احتمال الآية على بيان حالهم، واستدل بعضهم بالآية على ما روى من الخبر على عدم إحضار المتقين جثيًا حول جهنم فما يدل على العموم مخصص بمثل ذلك فتأمل والله تعالى الموفق، ونصب {يَوْمٍ} على الظرفية بفعل محذوف مؤخر أي يوم نحر ونسوق نفعل بالفريقين من الأفعال ما لا يحيط ببيانه نطاق المقال، وقيل: على المفعولية بمحذوف مقدم خوطب به سيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم أي اذكر لهم بطريق الترغيب والترهيب يوم نحشر.. إلخ، وقيل: على الظرفية بِ {نعد} [مريم: 84] باعتبار معنى المجازاة، وقيل: بقوله سبحانه وتعالى: {سَيَكْفُرُونَ بعبادتهم} [مريم: 82].وقيل بقوله جل وعلا {يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 82] وقيل: بقوله تعالى شأنه: {لاَّ يَمْلِكُونَ الشفاعة} والذي يقتضيه مقام التهويل وتستدعيه جزالة التنزيل أن ينتصب بأحد الوجهين الأولين ويكون هذا استئنافًا مبينًا لبعض ما في ذلك اليوم من الأمور الدالة على هوله، وضمير الجمع لما يعم المتقين والمجرمين أي العباد مطلقًا وقيل: للمتقين، وقيل: للمجرمين من أهل الايمان وأهل الكفر {والشفاعة}، على الأولين مصدر المبنى للفاعل وعلى الثالث ينبغي أن يكون مصدر المبني للمفعول.وقوله تعالى: {الشفاعة إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْدًا} استثناء متصل من الضمير على الأول ومحل المستثنى إما الرفع على البدل أو النصب على أصل الاستثناء، والمعنى لا يملك العباد أن يشفعوا لغيرهم إلا من اتصف منهم بما يستأهل معه أن يشفع وهو المراد بالعهد، وفسره ابن عباس بشهادة أن لا إله إلا الله والتبري من الحول والقوة عدم رجاء أحد إلا الله تعالى، وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والحاكم وصححه عن ابن مسعود أنه قرأ الآية وقال: إن الله تعالى يقول يوم القيامة: «من كان له عني عهد فليقم فلا يقوم إلا من قال هذا في الدنيا: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا أنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعله لي عهدًا عندك تؤديه إلى يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد»، وأخرج ابن أبي شيبة عن مقاتل أنه قال: العهد الصلاح، وروى نحوه عن السدي وابن جريج، وقال الليث: هو حفظ كتاب الله تعالى، وتسمية ما ذكر عهدًا على سبيل التشبيه، وقيل: المراد بالعهد الأمر والإذن من قولهم: عهد الأمير إلى فلان بكذا إذا أمره به أي لا يملك العباد أن يشفعوا إلا من أذن الله عز وجل له بالشفاعة وأمره بها فإنه يملك ذلك، ولا يأبى {عِندَ} الاتخاذ أصلًا فإنه كما يقال: أخذت الإذن في كذا يقال: اتخذته، نعم في قوله تعالى: {عِندَ الرحمن} نوع إباء عنه مع أن الجمهور على الأول، والمراد بالشفاعة على القولين ما يعم الشفاعة في دخول الجنة والشفاعة في غيره ونازع في ذلك المعتزلة فلم يجوزوا الشفاعة في دخول الجنة والاخبار تكذبهم، فعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل من أمتي ليشفع للفئام من الناس فيدخلون الجنة بشفاعته وإن الرجل ليشفع للرجل وأهل بيته فيدخلون الجنة بشفاعته»، وجوز ابن عطية أن يراد بالشفاعة الشفاعة العامة في فصل القضاء وبمن اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم وبالعهد الوهد بذلك في قوله سبحانه وتعالى: {عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} [الإسراء: 79] وهو خلاف الظاهر جدًا، وعلى الوجه الثاني في ضمير الجمع الاستثناء من الشفاعة بتقدير مضاف وهو متصل أيضًا.وفي المستثنى الوجهان السابقان أي لا يملك المتقون الشفاعة إلا شفاعة من اتخذ عند الرحمن عهدًا، والمراد به الايمان، وإضافة المصدر إلى المفعول.وقيل: المستثنى منه محذوف على هذا الوجه أي لا يملك المتقون الشفاعة لأحد إلا من اتخذ.. إلخ. أي إلا لمن اتصف بالايمان.وجوز أن يكون الاسثناء من الشفاعة بتقدير المضاف على الوجه الأول في الضمير أيضًا، وأن يكون المصدر مضافًا لفاعله أو مضافًا لمفعوله.وجوز عليه أيضًا أن يكون المستثنى منه محذوفًا كما سمعت، وعلى الوجه الثالث الاستثناء من الضمير وهو متصل أيضًا، وفي المستثنى الوجهان أي لا يملك المجرمون أن يشفع لهم إلا من كان مؤمنًا فإنه يملك أن يشفع له.وقيل: الاستثناء على تقدير رجوع الضمير إلى المجرمين منقطع لأن المراد بهم الكفار، وحمل ذلك على العصاة والكفار بعيد كما قال أبو حيان، والمستثنى حينئذ لازم النصف عند الحجازيين جائز نصبه وإبداله عند تميم.وجوز الزمخشري أن تكون الواو في {لاَّ يَمْلِكُونَ} علامة الجمع كالتي في أكلوني البراغيث والفاعل {مَنِ اتخذ} لأنه في معنى الجمع.وتعقبه أبو حيان بقوله: لا ينبغي حمل القرآن على هذه اللغة القليلة مع وضوح جعل الواو ضميرًا، وذكر الأستاذ أبو الحسن بن عصفور أنها لغة ضعيفة، وأيضًا فالواو والألف والنون التي تكون علامات لا يحفظ ما يجيء بعدها فاعلًا إلا بصريح الجمع وصريح التثنية أو العطف إما أن يأتي بلفظ مفرد يطلق على جمع أومثنى فيحتاج في إثباته إلى نقل، وإمما عود الضمائر مثناة ومجموعة على مفرد في اللفظ يراد به المثنى والمجموع فمسموع معروف في لسان العرب فيمكن قياس هذه العلامات على تلك الضمائر ولكن الأحوط أن لا يقال ذلك إلا بسماع انتهى.وتعقبه أيضًا ابن المنير بأن فيه تعسفًا لأنه إذا جعل الواو علامة لمن ثم أعاد على لفظها بالإفراد ضمير {اتخذ} كان ذلك إجمالًا بعد إيضاح وهو تعكيس في طريق البلاغة التي هي الإيضاح بعد الاجمال والواو على إعرابه وإن لم تكن عائدة على من إلا أنها كاشفة لمعناها كشف الضمير العائد لها ثم قال: فتنبه لهذا النقد فإنه أروج من النقد. وفي عنق الحسناء يستحسن العقد. انتهى، ومنه يعلم القول بجواز رجوع الضمير لها أولًا باعتبار معناها وثانيًا باعتبار لفظها لا يخلو عن كدر. اهـ.
|